شارل أبي نادر
خمسون عامًا على الحـ.ـرب الأهلية في لبنان، والشعب اللبناني مع أنه طوى صفحتها عمليًا منذ توقيع وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف السعودية، وإقرارها بقانون بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1989، بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على اندلاعها، ما يزال يعيش أجواءً صعبة وغير مستقرة.. فيها الكثير من مشاهد الانقسامات الداخلية، وفيها الكثير من مشاعر الخوف من الحاضر ومن المستقبل، أجواء غير بعيدة عن تلك التي طبعت تلك الحـ.ـرب المشؤومة.
صحيح أن الذكرى مؤلمة، وفيها استرجاع للكثير من المشاهد والصور والأخبار القاسية، وفيها الكثير من صور المآسي التي أصابت مقـ.ـتلاً المجتمع اللبناني بكل مكوناته ومناطقه. وصحيح أن العودة إليها كل عام وتذكُّرِها بكل ما تحمله من مآسٍ، مسألة غير واقعية وتحمل الكثير من علامات التحفظ؛ ولكن تبقى العودة إلى تذكرها ضرورية وشبه إجبارية، نتعلّم منها كي لا نعود ونقع فيها، ونحللها كي نحاول معرفة أسبابها الحقيقية.
صحيح أن بذور الخلافات الداخلية بين مكونات المجتمع اللبناني كانت- وما تزال اليوم- مردها وبجزء غير بسيط إلى ذهنـيـة التنافس والسباق على السلطة، بهـ.ـدف تحقيق المصالح والمآرب الشخصية والخاصة، من دون الاهتمام والعمل للمصلحة العامة ولمصلحة الوطن ككل. وتحمل هذه الخلافات، أيضًا في طياتها، بعض الانقسامات المبنية على خلفيات عائلية ومذهبية أو طائفية، ولكن كل المعطيات والوقائع الميدانية والأمنية والسياسية، والتي سبقت ورافقت مرحلة اندلاع الحـ.ـرب الاهلية في نيسان/ أبريل من العام ١٩٧٥ آنذاك، يمكن ربطها بالانقسام الداخلي على خلفية مـ.ـقاومة ومواجهة الاحتـ.ـلال "الإسرائيلي" لفلسـ.ـطين، وعلى الخلاف على فكرة إطلاق العمل المسـ.ـلح وقراره؛ انطلاقًا من الأراضي اللبنانية والجنوبية، تحديدًا ضد الاحتـ.ـلال "الإسرائيلي"، وذلك بعد أن كان لهذا العمل المسـ.ـلح، في حينه، طابع فلسـ.ـطيني في الأساس، بعد أن شرَّعه اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩.
من تلك اللحظة؛ بدأت مسؤولية الاحتـ.ـلال "الإسرائيلي" لفلسـ.ـطين بالتسبب بالحـ.ـرب الأهلية في لبنان. لقد انقسم اللبنانيون بين مؤيد للعمل الفلسـ.ـطيني المسـ.ـلح ضد الاحتـ.ـلال، وبين معارض لهذا العمل.. فانطلقت شرارة الحـ.ـرب وتمددت إلى أغلب المناطق، وخاصة في العاصمة بيروت التي انقسمت بين شرقية وغربية، وتمددت في شوارعها خطوط القتال التي أصبحت خطوط تماس قاتلة ومدمرة طوال الحـ.ـرب حتى بدايات العام ١٩٩٠.
مسؤولية الاحتـ.ـلال "الإسرائيلي" لم تنحصر فقط بأنها المسبب الرئيس للانقسام الداخلي مع أو ضد العمل المسـ.ـلح الفلسـ.ـطيني؛ بل تمددت هذه المسؤولية إلى تأدية دور المغذي الأول والأقوى لهذه الحـ.ـرب، بطريقة مباشرة عبر تقديم الدعم العسـ.ـكري إلى أطراف لبنانية داخلية بتزويدهم بالسـ.لاح من جهة ومن جهة ثانية عبر تدريبهم على القتال وعلى استخدام الأسلحـ.ـة التي زودتهم بها، وبطريقة غير مباشرة عبر الدعم السياسي والاعلامي، بتوجيههم ودفعهم نحو الانعزال وتقسيم البلاد وتفتيها إلى كانتونات طائفية ومذهبية وضرب كل أسس الكيان اللبناني الموحّد، من جهة ثانية.
لاحقًا، ذهب الاحتـ.ـلال إلى ما هو أبعد في تسعير الحـ.ـرب الأهلية، وذلك بتدخله المباشر فيها ميدانيًا داعمًا لفريق لبناني ضد فريق آخر، من خلال تنفيذه أكثر من اجتياح واحتـ.ـلال لأراضٍ لبنانية، في العام ١٩٧٨ باحتـ.ـلاله قسم كبير من الجنوب اللبناني، وفي العام ١٩٨٢ باحتـ.ـلاله مناطق واسعة وصولاً الى الجبل وإلى العاصمة بيروت.
لكن استطاع لبنان، بمـ.ـقاومته والتي كانت طرفًا أساسيًا قاتل وواجه الاحتـ.ـلال، وبجيشه وبأبنائه المساهمين الرئيسيين في دعم المـ.ـقاومة، حرّرت أغلب الأراضي اللبنانية المحتـ.ـلة، وبقي الخلاف قائمًا بين أطراف لبنانية داخلية، وعلى خلفية أحقية أو عدم أحقية حمل السـ.لاح ومـ.ـقاومة الاحتـ.ـلال في مناطق محدودة بقيت محتـ.ـلة في تلال كفرشوبا ومزارع شبعا.
اليوم، ومع النزاع الذي يخوضه لبنان أيضًا لتحرير النقاط والمناطق التي وسّع الـ.ـعـ.ـدو احتـ.ـلاله لها، ما تزال الانقسامات بين أطراف لبنانية، على عدة جوانب، تتمحور بأغلبها على النظرة للعدو والموقف من احتـ.ـلاله ومن أطماعه في لبنان. وبقيت الخلافات على رؤية كل فريق للعلاقة التي يجب أن تكون مع الـ.ـعـ.ـدو بعد انسحابه، سواء أكانت تطبيعًا مفروضًا، يعمل عليه الـ.ـعـ.ـدو ضاغطًا ومستغلاً احتـ.ـلاله لمناطق معينة، ومشترطًا تسهيل إعمار ما دمره بديلاً لهذا التطبيع.
هكذا، يكون الـ.ـعـ.ـدو "الإسرائيلي"، وفي كل مراحل الصراعات والنزاعات والخلافات الداخلية، بدءًا بالحـ.ـرب الأهلية في العام ١٩٧٥، مرورًا بالاجتياحين بين العام ١٩٧٨ والعام ١٩٨٢، وصولاً إلى الحـ.ـرب المدمرة التي ساقها مؤخرًا على لبنان وعلى غـ.ـزة بعد عملية "طـ.ـوفان الأقصى"، المسؤول الأول والمباشر، عن كل ما أصاب لبنان من دمار ومن مآسٍ، وذلك للأهداف الخبيثة الآتية:
- تفتيت وإضعاف الموقف اللبناني؛ وجعله عاجزا عن التأثير، سياسيًا وعسـ.ـكريًا، في بمواجهة الاحتـ.ـلال "الإسرائيلي" في فلسـ.ـطين المحتـ.ـلة وفي دول عربية أخرى.
- فرضه التطبيع مع لبنان مستغلاً الاحتـ.ـلال والدمار والحاجة إلى إعادة الإعمار، والتي يعرقلها بالتكافل والتضامن مع الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة والقادرة.
- كسر النموذج اللبناني في التعايش والوحدة، والعمل دائما لإحداث انقسامات وخلافات حمايةً لنموذجه العنصـ.ــري المقيت.